المقامة السياسية
بقلم: جمال عبد الغفار بدوي
حدثنا موسى بن غِشام قال:
خرجت من بغدادْ، أبكي على ما آلت إليه البلادْ، من احتلالٍ ودمارْ، وخرابٍ طالَ جميعَ الديارْ؛ وبعدَ الكثيرِ منَ العناءْ، والتفتيشِ والشقاءْ، وصلتُ إلى مراتعِ الأصدقاءْ، الذين استقبلوني بالطعامِ والثريدْ، والكرمِ الشديدْ، ليخففوا عني بعضَ ما لاقيتُ منْ أهوالْ، في الحربِ والسفرِ والترحالْ.
وبعدَ تجاذبِ أطرافِ الحديثِ والكلامْ، سألني أحدُ الكرامْ، عن رؤيتي السياسيةْ، لما يحدثُ على الساحةِ العربيةْ، فرشفتُ رشفةً منْ فنجانِ القهوةْ، ونظرتُ إلى أبعدِ نقطةٍ في أفقِ الربوةْ، ثم تنهدتُ كمنْ أفاقَ منْ غفوةْ!.
وحتى لا يعجبَ منكم سامعْ، أو يشردَ ذهنُ قارئٍ أو مُتابعْ؛ نعرفكم أن الفنجانَ إناءْ، اخترعهُ العربُ القدماءْ، وصنعوهُ من الصيني والخزفْ، وجعلوا فخامتهُ تدلُّ على الكرمِ والشرفْ، ورغم أنهِ إناء صغيرْ، إلا أنه يحملُ منَ المعاني الكثيرَ والكثيرْ! وهو يشبهُ حرفَ النونِ المكتوبْ، بَيْدَ أنَّه منَ الأسفلِ مسلوبْ، وله يَدٌ تسمَّى عندَ العربِ عُرْوَةْ، وقد استخدموهُ لاحتساءِ القهوةْ!.
فلما رشفتُ رشفةً منَ الفنجانْ، أودعتُها كلَّ ما أُعاني منْ أحزانْ؛ قلتُ لأصدقائي والجيرانْ:
إنني رجلٌ كما تعلمونَ غشيمٌ وغلبانْ، ولو كنتُ أفهمُ فيما تسمُّونهُ بالسياسةْ، أو أتمتعُ بقليلٍ من الذكاءِ أو الفراسةْ؛ لما وصلتُ إلى ما حلَّ بي من بهدلةٍ وشقاءْ، وأنا الكريمُ ابنُ الكرماءْ، الشريفُ ابنُ العظماءْ! ولمْ أكمل حديثي إذِ انتفضَ من بينِ الأصدقاءْ، رجلٌ ثمَ صاح:
أهكذا تسبُّ القادةَ والزعماءْ؟! وتتهمُ السادةَ الأمريكانْ، باسترجاعِكَ الذي قد كانْ؟ ولماذا تبثُّ الفتنةْ، بينَ الشيعةِ والسنةْ؟
إنَّ رجعيتَك ظاهرةٌ وتخلُّفَك أوضحْ؛ ولذلك تهاجمُ الفنونَ والمسرحْ، وإلا فقلْ لي ما الذي يغيظُك منْ نانسي عجرمْ؟! أليستْ هيَ أحسنَ منْ شاكيرا وأكرمْ؟ وإذا كانتْ شاكيرا أصولها عربيةْ؛ فإن العروبةَ الحقيقيةْ، عند نانسي وإليسا وهيفا، لتزيدَ المُسْتمتعَ بهنَّ شرفَا!.
ثم أخذ في الهذيانْ، واتهمني بالإرهابِ الجبانْ، وقالَ: إن ملامح هذا الكائنْ، تشبهُ كثيرًا ملامح أسامة بن لادنْ، وأقوالهُ السابقةُ كلها ناطقةٌ شاهدةْ، أنهُ ضليعٌ في تنظيمِ القاعدةْ، كما أنه من ملابسهِ الخارجيةِ والداخليةْ، كما ترونَ عدوٌ للديمقراطيةْ!.
ثم استطردَ وقالْ: انظروا أيها الرجالْ، إنه لا يؤمنُ بخارطةِ الطريقْ، ولا بالتعاونِ الوثيقْ، بينَ الجملِ والبطريقْ، ويشنِّعُ على النظامِ العالميِّ الجديدْ، وتفاهمِ "أنابولس" الرشيدْ، والمُمْعِنُ في نظراتِهِ، والمُتأمِّلُ في حركاتهِ؛ يعرفُ طولَ باعهِ في الجاسوسيةْ، وكراهيتَهُ للرياضةِ البدنيةْ، وشراهتَهُ للعلاقاتِ العاطفيةْ!.
ولمْ يتركْ الرجلُ تهمةً أوْ مصيبةْ، إلا وألصقها بي بطريقةٍ عجيبةْ! غيرَ أن الكارثَةَ الحقيقيةْ، لمْ تكنْ في هذه الاتهاماتِ الجنونيةْ؛ بلْ كانت في نظراتِ الأصدقاءْ، الذين بدا عليهم تصديقهم هذا الهراءْ، فلمْ أجد حيلةً أو وسيلةْ، غيرَ الجري رغم صحتي العليلةْ!
وبعدما تمكنتُ منَ الهروبْ، لمْ أسألْ عنْ مأكولٍ أوْ مشروبْ، ولكنني سألت عن هذا المجذوبْ، الذي كادِ أنْ يوردَني المهالكْ، في هذا الليلِ الحالكْ، فقيلَ لي إنه وديعُ الزمانْ، الذي أُصيبَ بالهذيانْ، لمحاولتهِ المستمرةْ، أكثرَ منْ مرةْ، فهمَ الرؤيةِ السياسيةْ، لبلادنا العربيةْ!.
فأخذتُ أنشدُ قائلاً:
إنْ كنتَ أنتَ الوديعْ والعقلُ منكَ يضيعْ
فكيفَ يحيَا غشيمْ وسطَ المناخِ الوضيعْ
تمت بحمدِ الله ومِنَّتِه